فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ الصُّلْحِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ الصُّلْحِ:

(وَأَمَّا) بَيَانُ حُكْمِ الصُّلْحِ فَنَقُولُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنَّ لِلصُّلْحِ أَحْكَامًا بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ جِنْسُ الصُّلْحِ الْمَشْرُوعِ، وَبَعْضُهَا دَخِيلٌ يَدْخُلُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ دُونَ الْبَعْضِ أَمَّا الْأَصْلُ، فَهُوَ انْقِطَاعُ الْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ شَرْعًا حَتَّى لَا تُسْمَعَ دَعْوَاهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا حُكْمٌ لَازَمَ جِنْسَ الصُّلْحِ.
فَأَمَّا.
الدَّخِيلُ.
فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا حَقُّ الشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُدَّعَى لَوْ كَانَ دَارًا، وَبَدَلُ الصُّلْحِ سِوَى الدَّارِ مِنْ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ، وَغَيْرِهِمَا، فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا حَقُّ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَيَجِبُ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ بَذْلُ الْمَالِ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ، وَالْيَمِينِ لَكِنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ الْمُدَّعِي فَيُدْلِيَ بِحُجَّتِهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ أَقَامَهَا الشَّفِيعُ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الصُّلْحَ كَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَحَلَّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَنَكَلَ، وَإِنْ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ دَارًا، وَالصُّلْحُ عَنْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ فِي الدَّارَيْنِ جَمِيعًا لِمَا مَرَّ أَنَّ الصُّلْحَ هُنَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَصَارَ كَأَنَّهُمَا تَبَايَعَا دَارًا بِدَارٍ، فَيَأْخُذُ شَفِيعُ كُلِّ دَارٍ الدَّارَ الْمَشْفُوعَةَ بِقِيمَةِ الدَّارِ الْأُخْرَى، وَإِنْ تَصَالَحَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمُدَّعِي الدَّارَ الْمُدَّعَاةَ، وَيُعْطِيَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَارًا أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ وَجَبَتْ فِيهِمَا الشُّفْعَةُ بِقِيمَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الدَّارَيْنِ جَمِيعًا مِلْكُ الْمُدَّعِي لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ بَدَلًا عَنْ مِلْكِهِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ.
وَلَوْ صَالَحَ عَنْ الدَّارِ عَلَى مَنَافِعَ لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِعَيْنِ مَالٍ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الشُّفْعَةِ بِهَا، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ فِي الدَّارِ الَّتِي هِيَ بَدَلُ الصُّلْحِ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الدَّارِ الْمُدَّعَاةِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ يَسْتَدْعِي كَوْنَ الْمَأْخُوذِ مَبِيعًا فِي حَقِّ مَنْ يَأْخُذُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ إنْكَارٍ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي مُعَاوَضَةٌ فَكَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ فِي حَقِّهِ إذَا كَانَ عَيْنًا فَكَانَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ، وَفِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ، بَلْ هُوَ إسْقَاطُ الْخُصُومَةِ، وَدَفْعُ الْيَمِينِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلدَّارِ الْمُدَّعَاةِ حُكْمُ الْمَبِيعِ فِي حَقِّهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ إلَّا أَنْ يُدْلِيَ بِحُجَّةِ الْمُدَّعِي فَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، أَوْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَنْكُلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَمِنْهَا حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ يَثْبُتُ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَلَا يَثْبُتُ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْعَيْبُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَاهُ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَخَذَ حِصَّةَ الْعَيْبِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَمْ يَرْجِعْ فِي شَيْءٍ، وَكَذَا لَوْ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الدَّارَ، وَقَدْ بَنَى فِيهَا بِنَاءً فَنُقِضَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعِي بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُدَّعَى جَارِيَةً، فَاسْتَوْلَدَهَا لَمْ يَكُنْ مَغْرُورًا، وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ الْمُدَّعِي لَيْسَ بَدَلَ الْمُدَّعَى فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ الْمُدَّعَاةُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعِي بِمَا أَدَّى إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى بَدَلُ الْخُصُومَةِ فِي حَقِّهِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا خُصُومَةَ فِيهِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِالْمُؤَدَّى.
وَلَوْ وُجِدَ بِبَدَلِ الصُّلْحِ عَيْبًا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ لِلْهَلَاكِ أَوْ لِلزِّيَادَةِ أَوْ لِلنُّقْصَانِ فِي يَدِ الْمُدَّعِي فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ فِي الْمُدَّعَى، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَاهُ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَخَذَ حِصَّةَ الْعَيْبِ، وَكَذَا إذَا حَلَّفَهُ فَنَكَلَ، وَإِنْ حَلَفَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا الرَّدُّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِي نَوْعَيْ الصُّلْحِ، وَفَرَّقَ الطَّحَاوِيُّ بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الرَّدَّ فِي الصُّلْحِ عَنْ إنْكَارٍ بِبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ وَبِالْمَهْرِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَالرَّدُّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي تِلْكَ الْعُقُودِ، فَكَذَا هَاهُنَا، وَفِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَثْبَتَ حَقَّ الرَّدِّ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ ثَبَتَ لِلْمُدَّعِي فَيَسْتَدْعِي كَوْنَهُ مُعَاوَضَةً عَنْ حَقِّهِ، وَقَدْ وُجِدَ وَكَذَلِكَ الْأَحْكَامُ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ هَذَا عَلَى مَا نَذْكُرُ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي بَدَلِ الصُّلْحِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا كَانَ مَنْقُولًا فِي نَوْعَيْ الصُّلْحِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُدَّعِي بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَقَارًا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ لِلْمُصَالِحِ أَنْ يَبِيعَهُ، وَيَبْرَأَ عَنْهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ الْمَهْرُ وَالْخُلْعُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ التَّحَرُّزُ عَنْ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ عَلَى تَقْدِيرِ الْهَلَاكِ، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْقِصَاصِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الصِّيَانَةِ بِالْمَنْعِ كَالْمَوْرُوثِ، وَبِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ إلْحَاقَ الْعَقْدِ بِالْعُقُودِ الَّتِي هِيَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ غَيْرُ سَدِيدٍ.
وَلَوْ صَالَحَ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى عَيْنٍ، فَهَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ؛ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يَنْفَسِخْ فَبَقِيَ وُجُوبُ التَّسْلِيمِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ لِلْمُصْلِحِ فَيَجِبُ تَسْلِيمُ الْقِيمَةِ.
(وَمِنْهَا) أَنَّ الْوَكِيلَ بِالصُّلْحِ إذَا صَالَحَ بِبَدَلِ الصُّلْحِ يَلْزَمُهُ، أَوْ يَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَهَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الصُّلْحُ فِي مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى اسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ فَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ يَلْزَمُهُ دُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الْبَيْعِ، وَحُقُوقُ الْبَيْعِ رَاجِعَةٌ إلَى الْوَكِيلِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى اسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ أَيْضًا إمَّا إنْ ضَمِنَ بَدَلَ الصُّلْحِ وَإِمَّا إنْ لَمْ يَضْمَنْ، فَإِنْ لَمْ يَضْمَنْ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ سَفِيرًا بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ، فَلَا تَرْجِعُ إلَيْهِ الْحُقُوقُ، وَإِنْ ضَمِنَ لَزِمَهُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ لَا بِحُكْمِ الْعَقْدِ.
(وَأَمَّا) الْفُضُولِيُّ فَإِنْ نَفَذَ صُلْحُهُ فَالْبَدَلُ عَلَيْهِ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ، وَإِنْ وَقْفَ صُلْحُهُ فَإِنْ رَدَّهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَطَلَ، وَلَا شَيْءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ، وَالْبَدَلُ عَلَيْهِ دُونَ الْفُضُولِيِّ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الصُّلْحُ بَعْدَ وُجُودِهِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الصُّلْحُ بَعْدَ وُجُودِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الصُّلْحُ أَشْيَاءُ.
(مِنْهَا) الْإِقَالَةُ فِيمَا سِوَى الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ مَا سِوَى الْقِصَاصِ لَا يَخْلُو عَنْ مَعْنَى مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ (فَأَمَّا) فِي الْقِصَاصِ فَالصُّلْحُ فِيهِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ عَفْوٌ، وَالْعَفْوُ إسْقَاطٌ فَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ.
(وَمِنْهَا) لِحَاقُ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ مَوْتُهُ عَلَى الرِّدَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ اللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَالْمَوْتِ، فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَ، وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَقَضَى الْقَاضِي بِهِ، أَوْ قُتِلَ، أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ تَبْطُلُ، وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ وَالْمُرْتَدَّةُ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ يَبْطُلُ مِنْ صُلْحِهَا مَا يَبْطُلُ مِنْ صُلْحِ الْحَرْبِيَّةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْحَرْبِيَّةِ، وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَمِنْهَا) الرَّدُّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّهُ يُفْسَخُ الْعَقْدُ لِمَا عُلِمَ.
(وَمِنْهَا) الِاسْتِحْقَاقُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ إبْطَالًا حَقِيقَةً، بَلْ هُوَ بَيَانُ أَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يَصِحَّ أَصْلًا لَا أَنَّهُ بَطَلَ بَعْدَ الصِّحَّةِ إلَّا أَنَّهُ إبْطَالٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ لِنَفَاذِ الصُّلْحِ ظَاهِرًا، فَيَجُوزُ إلْحَاقُهُ بِهَذَا الْقِسْمِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِإِبْطَالٍ حَقِيقَةً، فَكَانَ إلْحَاقُهُ بِأَقْسَامِ الشَّرَائِطِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى وَأَقْرَبُ إلَى الصِّنَاعَةِ وَالْفِقْهِ، فَكَانَ أَوْلَى.
(وَمِنْهَا) هَلَاكُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْمَنَافِعِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْإِجَازَةِ، وَإِنَّمَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَأَمَّا هَلَاكُ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى مَنْفَعَتِهِ هَلْ يُوجِبُ بُطْلَانَ الصُّلْحِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ حَيَوَانًا كَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ أَوْ غَيْرَ حَيَوَانٍ كَالدَّارِ وَالْبَيْتِ، فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا؛ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِاسْتِهْلَاكٍ، فَإِنْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ يَبْطُلُ الصُّلْحُ إجْمَاعًا، وَإِنْ هَلَكَ بِاسْتِهْلَاكٍ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إنْ اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ، وَإِمَّا إنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِمَّا إنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُدَّعِي، فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ بَطَلَ الصُّلْحُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَبْطُلُ وَلَكِنْ لِلْمُدَّعِي الْخِيَارُ إنْ شَاءَ نَقْضَ الصُّلْحَ، وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى لَهُ بِقِيمَتِهِ عَبْدًا يَخْدُمُهُ إلَى الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ، وَقَدْ وُجِدَ؛ وَلِهَذَا مِلْكُ إجَارَةِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ، وَالْإِجَارَةُ تَبْطُلُ بِهَلَاكِ الْمُسْتَأْجِرِ سَوَاءٌ هَلَكَ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِاسْتِهْلَاكٍ كَذَا هَذَا.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ هَذَا صُلْحٌ فِيهِ مَعْنَى الْإِجَارَةِ، وَكَمَا أَنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لَازِمٌ فِي الْإِجَارَةِ فَمَعْنَى اسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ أَصْلٌ فِي الصُّلْحِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُمَا جَمِيعًا مَا أَمْكَنَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْمُدَّعَى فَيَجِبُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الِاسْتِيفَاءِ مِنْ مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ الرَّقَبَةُ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا فَتُجْعَلُ كَأَنَّهَا مِلْكُهُ فِي حَقِّ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْهَا وَبَعْدَ الْقَتْلِ إنْ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ عَيْنِهَا يُمْكِنُ مِنْ بَدَلِهَا، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ الْبَدَلِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا فَيَخْدُمَهُ إلَى الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ، وَلَهُ حَقُّ النَّقْضِ أَيْضًا لِتَعَذُّرِ مَحَلِّ الِاسْتِيفَاءِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنْ قَتَلَهُ، أَوْ كَانَ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ يَبْطُلُ الصُّلْحُ أَيْضًا، وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ، فَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلَا يَبْطُلُ، وَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهَا عَبْدًا آخَرَ يَخْدُمُهُ إلَى الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ، كَمَا إذَا قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ، وَكَالرَّاهِنِ إذَا قَتَلَ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ، أَوْ أَعْتَقَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَكِنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِحَقِّ الْغَيْرِ، وَهُوَ الْمُدَّعِي لَتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهَا، فَتَجِبُ رِعَايَتُهُمَا جَمِيعًا بِتَنْفِيذِ الْعِتْقِ، وَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ، كَمَا فِي الرَّهْنِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُدَّعِي بَطَلَ الصُّلْحُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَبْطُلُ، وَتُؤْخَذُ مِنْ الْمُدَّعِي قِيمَةُ الْعَبْدِ، وَيُشْتَرَى عَبْدٌ آخَرُ يَخْدُمُهُ، وَهَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُدَّعِي فِي نَقْضِ الصُّلْحِ عَلَى مَذْهَبِهِ فِيهِ نَظَرٌ هَذَا إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى مَنَافِعِ الْحَيَوَانِ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى سُكْنَى بَيْتٍ فَهَلَكَ بِنَفْسِهِ بِأَنْ انْهَدَمَ، أَوْ بِاسْتِهْلَاكٍ بِأَنْ هَدَمَهُ غَيْرُهُ لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ، وَلَكِنْ لِصَاحِبِ السُّكْنَى، وَهُوَ الْمُدَّعِي الْخِيَارُ إنْ شَاءَ بَنَاهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ بَيْتًا آخَرَ يَسْكُنُهُ إلَى الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الصُّلْحَ، وَلَا يَتَعَذَّرُ هُنَا خِلَافُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ الْعَبْدِ تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِجَارَةَ الدَّارِ لَا تَبْطُلُ بِانْهِدَامِهَا، وَلِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَبْنِيَهَا مَرَّةً أُخْرَى فِي بَعْضِ إشَارَاتِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا مَرَّ فِي الْإِجَارَاتِ.
وَلَوْ تَصَالَحَا عَنْ إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى مَالٍ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ الصُّلْحِ لَا يَنْفَسِخُ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُبَيِّنٌ أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ مُعَاوَضَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ مُقِرًّا لِلصُّلْحِ لَا مُبْطِلًا لَهُ.
وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الصُّلْحِ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ إلَّا إذَا ظَهَرَ بِبَدَلِ الصُّلْحِ عَيْبٌ، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لِيَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ، فَتُسْمَعَ بَيِّنَتُهُ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ لِلصُّلْحِ الْمَاضِي حُكْمَ الصُّلْحِ عَنْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكُلُّ حُكْمٍ ثَبَتَ فِي ذَلِكَ ثَبَتَ فِي هَذَا.

.فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ الصُّلْحِ إذَا بَطَلَ بَعْدَ صِحَّتِهِ:

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الصُّلْحِ إذَا بَطَلَ بَعْدَ صِحَّتِهِ، أَوْ لَمْ يَصِحَّ أَصْلًا.
فَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ الْمُدَّعِي إلَى أَصْلِ دَعْوَاهُ إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إقْرَارٍ، فَيَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْمُدَّعَى لَا غَيْرُهُ إلَّا أَنَّ فِي الصُّلْحِ عَنْ قِصَاصٍ إذَا لَمْ يَصِحَّ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَاتِلِ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقِصَاصِ إلَّا أَنْ يَصِيرَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغُرُورِ أَيْضًا، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُمَا إذَا تَقَايَلَا الصُّلْحَ فِيمَا سِوَى الْقِصَاصِ، أَوْ رَدَّ الْبَدَلَ بِالْعَيْبِ، وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ يَرْجِعُ الْمُدَّعِي بِالْمُدَّعَى إنْ كَانَ عَنْ إقْرَارٍ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ وَالرَّدَّ بِالْعَيْبِ، وَخِيَارَ الرُّؤْيَةِ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ، وَإِذَا فُسِخَ جُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَعَادَ الْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ، وَكَذَا إذَا اُسْتُحِقَّ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ لِفَوَاتِ شَرْطِ الصِّحَّةِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا، فَكَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا أَنَّ فِي الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ عَنْ إقْرَارٍ لَا يَرْجِعُ بِالْمُدَّعَى، وَإِنْ فَاتَ شَرْطُ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ صُورَةَ الصُّلْحِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقَصَّاصِ وَالْقِصَاصُ لَا يُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبْهَةِ فَسَقَطَ لَكِنْ إلَى بَدَلٍ، وَهُوَ الدِّيَةُ، فَأَمَّا الْمَالُ، وَمَا سِوَى الْقِصَاصِ مِنْ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ فِيمَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ الشُّبْهَةِ فَأَمْكَنَ الرُّجُوعُ بِالْمُدَّعَى، وَلَا يُرْجَعُ بِشَيْءٍ آخَرَ إلَّا إذَا صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ جَارِيَةً، فَقَبَضَهَا وَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ جَاءَ مُسْتَحِقٌّ فَاسْتَحَقَّهَا وَأَخَذَهَا وَأَخَذَ عُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا وَقْتَ الْخُصُومَةِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْمُدَّعَى، وَبِمَا ضَمِنَ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَاهُ لَا غَيْرَ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ، أَوْ حَلَّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَنَكَلَ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ بِمَا ادَّعَى، وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَغْرُورًا، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغُرُورِ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ فِي نَوْعَيْ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ الْعُقْرَ بَدَلٌ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْتَوْفَى، فَكَانَ عَلَيْهِ الْعُقْرُ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، أَوْ مَا دُونَهَا فَصَالَحَ عَلَى جَارِيَةٍ فَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْجَارِيَة، وَبِمَا ضَمِنَ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ؛ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَاهُ لَا غَيْرَ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، أَوْ حَلَّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَنَكَلَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ، وَبِمَا ضَمِنَ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ، أَوْ صَالَحَ الْمُتَوَسِّطَ عَلَى عَبْدٍ مُعَيَّنٍ فَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ، أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ حَتَّى بَطَلَ الصُّلْحُ لَا سَبِيلَ لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُتَوَسِّطِ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمُدَّعَى إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَسِّطَ بِهَذَا الصُّلْحِ لَا يَضْمَنُ سِوَى تَسْلِيمِ الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ.
وَلَوْ صَالَحَ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ، وَضَمِنَهَا وَدَفَعَهَا إلَيْهِ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ، أَوْ وَجَدَهَا زُيُوفًا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُصَالِحِ الْمُتَوَسِّطِ؛ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ الْجَارِيَةِ، وَسَلَامَةَ الْمَضْمُونِ.
وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ الْمُدَّعَاةُ بَعْدَ الصُّلْحِ عَنْ إقْرَارٍ، أَوْ عَنْ إنْكَارٍ كَانَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا دَفَعَ.
(أَمَّا) فِي مَوْضِعِ الْإِقْرَارِ، فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ عِوَضٌ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا.
(وَأَمَّا) فِي مَوْضِعِ الْإِنْكَارِ فَلِأَنَّ الْمَأْخُوذَ عِوَضٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَدْ فَاتَ بِالِاسْتِحْقَاقِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ عِوَضِهِ هَذَا إذَا اسْتَحَقَّ كُلَّ الدَّارِ فَأَمَّا إذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَهَا، فَإِنْ كَانَ ادَّعَى جَمِيعَ الدَّارِ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ مَا اُسْتُحِقَّ لِفَوَاتِ بَعْضِ مَا هُوَ عِوَضٌ عَنْ الْمُسْتَحَقِّ، وَإِنْ كَانَ ادَّعَى فِيهَا حَقًّا لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى مَا وَرَاءَ الْمُسْتَحَقِّ، وَإِذَا بَطَلَ الصُّلْحُ عَلَى الْمَنَافِعِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ رَجَعَ بِالْمُدَّعَى بِقَدْرِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ رَجَعَ إلَى الدَّعْوَى فِي قَدْرِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ.
وَلَوْ صَالَحَ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى دَنٍّ مِنْ خَمْرٍ فَإِذَا هُوَ خَلٌّ، أَوْ عَلَى عَبْدٍ؛ فَإِذَا هُوَ حُرٌّ، فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي عُرِفَ فِي بَابِ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّ فِيمَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ هُنَاكَ تَجِبُ الدِّيَةُ هُنَا، وَفِيمَا تَجِبُ الْقِيمَةُ لِرَجُلٍ مِثْلِهِ هُنَاكَ يَجِبُ ذَاكَ هُنَا، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا مَا إذَا صَالَحَ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى خَمْرٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِأَنَّهُ خَمْرٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَهَاهُنَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِتَسْمِيَةِ الْعَبْدِ وَالْخَلِّ، وَكُلُّ مَنْ غَرَّ غَيْرَهُ فِي شَيْءٍ، يَكُونُ مُلْتَزِمًا مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِيهِ، فَإِذَا ظَهَرَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ، وَمَعْنَى الْغُرُورِ، لَا يَتَقَدَّرُ عِنْدَ عِلْمِهِ بِحَالِ الْمُسَمَّى فَتَبْقَى لَفْظَةُ الصُّلْحِ كِنَايَةً عَنْ الْعَفْوِ، وَأَنَّهُ مُسْقِطٌ لِلْحَقِّ أَصْلًا، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

.كِتَابُ الشَّرِكَة:

الشَّرِكَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ، وَشَرِكَةُ الْعُقُودِ وَشَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَثْبُتُ بِفِعْلِ الشَّرِيكَيْنِ، وَنَوْعٌ يَثْبُتُ بِغَيْرِ فِعْلِهِمَا.
(أَمَّا) الَّذِي يَثْبُتُ بِفِعْلِهِمَا فَنَحْوُ أَنْ يَشْتَرِيَا شَيْئًا، أَوْ يُوهَبَ لَهُمَا، أَوْ يُوصَى لَهُمَا، أَوْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِمَا، فَيَقْبَلَا فَيَصِيرَ الْمُشْتَرَى وَالْمَوْهُوبُ وَالْمُوصَى بِهِ وَالْمُتَصَدَّقَ بِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ مِلْكٍ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَثْبُتُ بِغَيْرِ فِعْلِهِمَا فَالْمِيرَاثُ بِأَنْ وَرِثَا شَيْئًا فَيَكُونَ الْمَوْرُوثُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ مِلْكٍ.
(وَأَمَّا).
شَرِكَةُ الْعُقُودِ.
فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنْوَاعِهَا وَكَيْفِيَّةِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا، وَرُكْنِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ رُكْنِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الشَّرِكَةِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَشَرِكَةُ الْعُقُودِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: شَرِكَةٌ بِالْأَمْوَالِ، وَشَرِكَةٌ بِالْأَعْمَالِ، وَتُسَمَّى شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ وَشَرِكَةَ الصَّانِعِ، وَشَرِكَةٌ بِالتَّقَبُّلِ، وَشَرِكَةٌ بِالْوُجُوهِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ: وَهُوَ الشَّرِكَةُ بِالْأَمْوَالِ: فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ فِي رَأْسِ مَالٍ، فَيَقُولَانِ اشْتَرَكْنَا فِيهِ، عَلَى أَنْ نَشْتَرِيَ وَنَبِيعَ مَعًا، أَوْ شَتَّى، أَوْ أَطْلَقَا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رِبْحٍ، فَهُوَ بَيْنَنَا عَلَى شَرْطِ كَذَا، أَوْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا: ذَلِكَ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: نَعَمْ.
وَلَوْ ذَكَرَا الشِّرَاءَ دُونَ الْبَيْعِ، فَإِنْ ذَكَرَا مَا يَدُلُّ عَلَى شَرِكَةِ الْعُقُودِ، بِأَنْ قَالَا: مَا اشْتَرَيْنَا فَهُوَ بَيْنَنَا، أَوْ مَا اشْتَرَى أَحَدُنَا مِنْ تِجَارَةٍ فَهُوَ بَيْنَنَا، يَكُونُ شَرِكَةً؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا جَعَلَا مَا اشْتَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ بَيْنَهُمَا عَلِمَ أَنَّهُمَا أَرَادَا بِهِ الشَّرِكَةَ، لَا الْوَكَالَةَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُوَكِّلُ مُوَكَّلَهُ عَادَةً، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَكَالَةً لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى مَا تَقِفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْوَكَالَةِ، وَهُوَ التَّخْصِيصُ بِبَيَانِ الْجِنْسِ أَوْ النَّوْعِ أَوْ قَدْرِ الثَّمَنِ بَلْ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَذْكُرَا الشِّرَاءَ، وَلَا الْبَيْعَ.
وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى شَرِكَةِ الْعُقُودِ، بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ لِغَيْرِهِ: مَا اشْتَرَيْتُ مِنْ شَيْءٍ فَبَيْنِي وَبَيْنَكَ، أَوْ قَالَ: فَبَيْنَنَا، وَقَالَ الْآخَرُ: نَعَمْ فَإِنْ أَرَادَا بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَا بِمَعْنَى شَرِيكَيْ التِّجَارَةِ، كَانَ شَرِكَةً حَتَّى تَصِحَّ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ جِنْسِ الْمُشْتَرَى، وَنَوْعِهِ وَقَدْرِ الثَّمَنِ، كَمَا إذَا نَصَّا عَلَى الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ.
وَإِنْ أَرَادَا بِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا خَاصَّةً بِعَيْنِهِ، وَلَا يَكُونَا فِيهِ كَشَرِيكَيْ التِّجَارَةِ بَلْ يَكُونُ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا بِعَيْنِهِ كَمَا إذَا أُورِثَا أَوْ وُهِبَ لَهُمَا، كَانَ وَكَالَةً لَا شَرِكَةً فَإِنْ وُجِدَ شَرْطُ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ جَازَتْ الْوَكَالَةُ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ بَيَانُ جِنْسِ الْمُشْتَرَى، وَبَيَانُ نَوْعِهِ، أَوْ مِقْدَارِ الثَّمَنِ فِي الْوَكَالَةِ الْخَاصَّةِ وَهِيَ أَنْ لَا يُفَوِّضَ الْمُوَكِّلُ الرَّأْيَ إلَى الْوَكِيلِ، بِأَنْ يَقُولَ: مَا اشْتَرَيْتَ لِي مِنْ عَبْدٍ تُرْكِيٍّ، أَوْ جَارِيَةٍ رُومِيَّةٍ، فَهُوَ جَائِزٌ أَوْ مَا اشْتَرَيْتَ لِي مِنْ عَبْدٍ أَوْ جَارِيَةٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ، أَوْ بَيَانُ الْوَقْتِ أَوْ قَدْرِ الثَّمَنِ أَوْ جِنْسِ الْمُشْتَرَى فِي الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ بِأَنْ يَقُولَ: مَا اشْتَرَيْتَ لِي مِنْ شَيْءٍ الْيَوْمَ أَوْ شَهْرَ كَذَا أَوْ سَنَةَ كَذَا فَهُوَ جَائِزٌ، أَوْ قَالَ: مَا اشْتَرَيْتَ لِي مِنْ شَيْءٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ أَوْ مَا اشْتَرَيْتَ لِي مِنْ الْبَزِّ وَالْخَزِّ، فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ هَذَا اللَّفْظِ يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ، وَيَحْتَمِلُ الْوَكَالَةَ فلابد مِنْ النِّيَّةِ فَإِنْ نَوَيَا بِهِ الشَّرِكَةَ كَانَ شَرِكَةً فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرِكَةِ الْعُمُومُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِتَكْرَارِ التِّجَارَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا بَيَانُ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الشَّرِكَةِ وَإِنْ نَوَيَا بِهِ الْوَكَالَةِ كَانَ وَكَالَةً وَيَقِفُ صِحَّتُهَا عَلَى شَرَائِطِهَا مِنْ الْخَاصَّةِ أَوْ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْوَكَالَةِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَمَلَّكُ الْعَيْنِ لَا تَحْصِيلُ الرِّبْحِ مِنْهَا فلابد فِيهَا مِنْ التَّخْصِيصِ بِبَيَانِ مَا ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ بِبَيَانِ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَصَفْنَا لِأَنَّهُ لَمَّا عَمَّمَهَا بِتَفْوِيضِ الرَّأْيِ فِيهَا إلَى الْوَكِيلِ فَقَدْ شَبَّهَهَا بِالشَّرِكَةِ فَكَانَ فِي احْتِمَالِ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ كَالشَّرِكَةِ لَكِنَّهَا وَكَالَةٌ وَالْخُصُوصُ أَصْلٌ فِي الْوَكَالَةِ فلابد فِيهَا مِنْ ضَرْبِ تَخْصِيصٍ فَإِنْ أَتَى بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، جَازَتْ وَإِلَّا بَطَلَتْ.
قَالَ بِشْرٌ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ: مَا اشْتَرَيْتَ الْيَوْمَ مِنْ شَيْءٍ فَبَيْنِي وَبَيْنَكَ نِصْفَيْنِ فَقَالَ الرَّجُلُ: نَعَمْ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: هَذَا جَائِزٌ.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ.
وَكَذَلِكَ إنْ وَقَّتَ مَالًا، وَلَمْ يُوَقِّتْ يَوْمًا، وَكَذَا إنْ وَقَّتَ صِنْفًا مِنْ الثِّيَابِ، وَسَمَّى عَدَدًا، أَوْ لَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا وَلَا يَوْمًا، وَإِنْ قَالَ: مَا اشْتَرَيْتَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لَا يَجُوزُ.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الْبَيْعَ، وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى شَرِكَةِ الْعُقُودِ، عُلِمَ أَنَّهَا وَكَالَةٌ، فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِضَرْبٍ مِنْ التَّخْصِيصِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا بِغَيْرِ مَالٍ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَيَا الْيَوْمَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا خَصَّا صِنْفًا مِنْ الْأَصْنَافِ، أَوْ عَمَّا وَلَمْ يَخُصَّا فَهُوَ جَائِزٌ.
وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُوَقِّتَا لِلشَّرِكَةِ وَقْتًا كَانَ هَذَا جَائِزًا؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا جَعَلَا مَا يَشْتَرِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ بَيْنَهُمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا شَرِكَةٌ وَلَيْسَتْ بِوَكَالَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَكُونُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَادَةً، وَإِذَا كَانَ شَرِكَةً فَالشَّرِكَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى التَّخْصِيصِ.
قَالَ وَإِنْ أَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا يَشْتَرِيهِ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ فَكُلَّمَا اشْتَرَيَا شَيْئًا، فَهُوَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَمَّا صَحَّتْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلَ الْآخَرِ فِيمَا يَشْتَرِيهِ، فَهُوَ بِالْإِشْهَادِ أَنَّهُ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ، يُرِيدُ إخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْ الْوَكَالَةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ، فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ.
(وَأَمَّا) الشَّرِكَةُ بِالْأَعْمَالِ: فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَا عَلَى عَمَلٍ مِنْ الْخِيَاطَةِ، أَوْ الْقِصَارَةِ، أَوْ غَيْرِهِمَا فَيَقُولَا: اشْتَرَكْنَا عَلَى أَنْ نَعْمَلَ فِيهِ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أُجْرَةٍ فَهِيَ بَيْنَنَا، عَلَى شَرْطِ كَذَا،.
(وَأَمَّا) الشَّرِكَةُ بِالْوُجُوهِ: فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَا وَلَيْسَ لَهُمَا مَالٌ، لَكِنْ لَهُمَا وَجَاهَةٌ عِنْدَ النَّاسِ فَيَقُولَا: اشْتَرَكْنَا عَلَى أَنْ نَشْتَرِيَ بِالنَّسِيئَةِ، وَنَبِيعَ بِالنَّقْدِ، عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا عَلَى شَرْطِ كَذَا.
وَسُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ بِالنَّسِيئَةِ إلَّا الْوَجِيهُ مِنْ النَّاسِ عَادَةً أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوَاجِهُ صَاحِبَهُ يَنْتَظِرَانِ مَنْ يَبِيعُهَا بِالنَّسِيئَةِ وَيَدْخُلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ: الْعِنَانُ وَالْمُفَاوَضَةُ وَيُفْصَلُ بَيْنَهُمَا بِشَرَائِطَ تَخْتَصُّ بِالْمُفَاوَضَةِ نَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.